الثلاثاء، 17 أكتوبر 2017

جواب أبي بكر الخطيب عن سؤال بعض أهل دمشق في الصفات

جواب أبي بكر الخطيب عن سؤال بعض أهل دمشق في الصفات
المؤلف: الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بـ(الخطيب البغدادي) -رحمه الله- (392-463هـ).
أَخْبَرَنَا الشَّيخُ أَبُو طَالِب المبَارَكُ بنُ عَلِي الصَّيرَفِي إِذنًا، قَالَ: أَنبَأَنَا أَبُو الحَسَنِ مُحمَدُ بنُ مَرزُوقٍ بنِ عَبدِ الرَّزاقِ الزَّعفَرَانِي قِرَاءةً عَلَيهِ وَأَنَا أَسمَعُ فِي رَبِيعٍ الأول مِن سَنَةِ سِتٍ وَخَمسِ مِائة، قَالَ: أَنبَأَنَا الخَطِيبُ الحَافِظُ أَبُو بَكرٍ أَحمَدُ بنُ عَلِي البَغدَادِي قَالَ: كَتَبَ إِليَّ بَعضُ أَهلِ دِمَشقٍ يَسْأَلُنَي عَن مَسَائِل ذَكَرَهَا، فَأَجَبتُهُ عَن ذَلِكَ، وَقَرَأَهُ لَنَا فِي جَوَابِ مَا سُئِلَ عَنهُ فَقَالَ: وَقَفتُ عَلَى مَا كَتَبَ بِهِ الشَيخُ الفَاضِلَ أَدَامَ اللهُ تَأييدَهُ، وَأَحسَنَ تَوفِيقَهُ وَتَسدِيدَهُ، وَسَكَنَت إِلَى مَا تَأَدَّى إِليَّ مِن عِلمِ أَخبَارِهِ، أَجَرَاهَا اللهُ عَلَى إِيثَارِهِ، وَأَجَبتُهُ بِمَا لَهُ جَوَابُ نَفعٍ وِفَاق اختِيَارِهِ، وَأَسأَلُ اللهَ العِصمَةَ مِنَ الخَطَأ وَالزَلَل، وَالتَّوفِيقَ لإِدرَاكِ صَوابِ القَولِ وَالعَمَل، بِمَنِهِ وَرَحمَتِهِ.
أَمَا الكَلَامُ فِي الصَّفَاتِ؛ فَإِنَّ مَا رُوي مِنهَا فِي السُّنَنَ الصِّحَاحِ، مَذهَبُ السَّلَفِ -رُضوَانُ اللهِ عَلَيهِم- إِثبَاتُهَا وَإِجرَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرَهَا، وَنَفيُ الكَيفِيَةِ وَالتَّشبِيهِ عَنهَا.
وَقَد نَفَاهَا قَومٌ فَأَبطَلَوا مَا أَثبَتَهُ اللهُ –سبحانه-، وَحَقَقَهَا مِنَ المثبِتينَ قَومٌ، فَخَرَجُوا فِي ذَلِكَ إلِى ضَربٍ مِنَ التَّشبِيهِ وَالتَّكييف.
وَالقَصدُ إِنَّمَا هُوَ سُلُوكُ الطَّريقةُ المتوَسِطَة بَينَ الأَمرَينَ، وَدِينُ اللهِ –تَعَالَى- بَينَ الغَالَيِ فِيهِ واِلمقصر عَنهُ.
وَالأصَلُ فِي هَذَا أَنَّ الكًلاَمَ فِي الصَّفَاتِ فرَعٌ عَلَى الكَلاَمِ فِي الذَاتَ، وَيَحتَذِي فِي ذَلِكَ حَذوَهَ وَمِثَالَه.
فِإَذا كَان مَعلومًا أَنَّ إِثبَاتَ رَبِ العَالَمِينَ -عَزَّ وَجَل- إِنمَا هُو إِثبَاتُ وُجُودٍ لَا إِثبَاتَ كَيفِيَة؛ فَكَذَلكِ إَثباتُ صِفَاتِهِ إنِمَا هُوَ إِثَبَات وُجودٍ لَا إِثبَاتُ تَحدِيدِ وَتكِييِفٍ.
فَإِذَا قُلَنَا: للهِ –تَعَالَى- يَدٌ وَسَمَعٌ وَبَصَرٌ؛ فَإِنَما هِيَ صِفَاتٌ أَثبَتَهَا اللهُ –تعالى- لِنَفسِهِ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّ مَعنَى اليَد القُدرَة، وَلَا إِنَّ مَعنَى السَّمعِ وَالبَّصَر العِلم، وَلَا نَقَولَ: إِنَها جَوَارِح، وَلَا نُشَبِهَهَا بَالأَيدِي وَالأَسمَاعِ وَالأَبصَارِ التَّي هِيَ جَوَارَح وَأَدَوَاتٌ لِلفِعلِ.
وَنَقُولُ: إِنَّمَا وَجَبَ إِثبَاتُهَا؛ لأَنَّ التَّوقِيفَ وَرَدَ بِهَا، وَوَجَبَ نَفيُ التَّشبِيهِ عَنهَا؛ لِقَولِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:11]، وَقَولِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص:4].
وَلمَّا تَعَلَّقَ أَهلُ البِدَعِ عَلَى عَيبِ أَهلِ النَّقلِ بِرِوَايَاتِهِم هَذِهِ الأَحَادِيثِ، وَلبَّسُوا عَلَى مَن ضَعُفَ عِلمُهُ بَأَنهُم يَروونَ مَا لَا يَلِيقُ بِالتَّوحِيدِ وَلَا يَصِحُ فِي الدِّينِ، وَرَمَوهم بِكُفرِ أَهلِ التَّشبِيهِ وَغَفلَةِ أَهلِ التَّعطِيلِ، أُجِيبُوا بِأَنَ فِي كِتَابِ اللهِ –تَعَالَى- آيَاتٍ مُحكَمَاتِ يُفهَمُ مِنهَا المرادُ بِظَاهِرِهَا، وَآيَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ لَا يُوقَفُ عَلَى مَعنَاهَا إِلَّا بِرَدِهَا إِلَى المحكَمِ، وَيَجِبُ تَصدِيقُ الكُلَّ وَالإِيمَانُ بِالَجمِيعِ؛ فَكَذَلِكَ أَخبَارُ الرَسُولِ r جَارَيَةً هَذَا المجرَى، مُنَزّلةٌ عَلَى هَذَا التَّنزِيل، يَرُدُ المتَشَابِهَ مِنهَا إِلَى المحكَم وَيُقبَلُ الجمِيعُ.
وَتَنقَسِمُ الأَحَادِيثُ المروِيَةُ فِي الصِّفَاتِ ثَلَاثَة أَقسَامٍ:
أ‌-               مِنهَا أَخبَارٌ ثَابِتَة: أَجمَعَ أَئِمَةُ النَّقلِ عَلَى صِحَتِهَا؛ لِاستِفَاضَتِهَا وَعَدَالَةِ نَاقِلِيهَا، فَيَجِبُ قَبُولُهُا وَالإِيمَانُ بِهَا، مَعَ حِفظِ القَلبِ أَنْ يَسبِقَ إِليهِ اعتِقَادُ مَا يَقَتَضِي تَشبِيهَ اللهِ بِخَلقِهِ، وَوَصفِهِ بِما لَا يِلِيقُ بِهِ مِنَ الجَوَارِحِ وَالأَدَوَاتِ، وَالتَّغَيُر وَالحَرَكَاتِ.
ب‌-        وَالقِسمُ الثَّانِي: أَخْبَارٌ سَاقِطَة، بِأَسَانِيدَ وَاهِية، وَأَلفَاظٍ شَنِيعَة، أَجْمَعَ أَهلُ العِلمِ بِالنَقلِ عَلَى بُطُولِهَا([1])؛ فَهَذِهِ لَا يَجُوزُ الاشتِغَالُ بِهَا، وَلَا التَّعرِيجُ عَلَيهَا([2]).
ت‌-        وَالقِسمُ الثَّالِث: أَخْبَارٌ اخَتَلَفَ أَهلُ العِلمِ فِي أَحوَالِ نَقَلَتِهَا، فَقَبِلَهُم البَعض دُونَ الكُلِّ، فَهَذِهِ يَجِبِ الاجتِهَادُ وَالنَّظَرُ فِيهَا؛ لِتَلحَقَ بِأَهلِ القَبُولِ، أَو تُجعَل فِي حيِّز الفَسَادِ وَالبُطُولِ([3]).
وَأَمَّا تَعيينُ الأَحَادِيث، فَإِنِي لَم أَشْتَغِل بِهَا، وَلَا تَقَدَّمَ مِنِي جَمعٌ لَهَا، وَلَعَلَ ذَلِكَ يَكُونَ فِيمَا بَعدُ -إِنْ شَاءَ اللهُ-([4]).




([1]) البطول أي: البطلان.
[2])) قال ابن قدامة في ذم التأويل ص47: (ينبغي أن يعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها، وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رُواتها أو جهالتهم أو لعلةٍ فيها؛ فلا يجوز أن يقال بها، ولا اعتقاد ما فيها، بل وجودها كعدمها، وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي الذي أضافوه إلى أنفسهم ... وليُعلم أن من أثبت لله تعالى صفةً بشيءٍ من هذه الأحاديث الموضوعة؛ فهو أشد حالاً ممن تأول الأخبار الصحيحة، ودينُ الله تعالى هو بين الغالي فيه والمقصِّر عنه، وطريق السلف رحمة الله عليهم جامعةٌ لكل خير، وفقنا الله وإياكم لاتباعها وسلوكها).
([3]) قال الشيخ الألباني في مختصر العلو ص49 –بعد إيراد جواب الخطيب هذا-:
(فاحفظ هذا الأصل من الكلام في الصفات، وافهمه جيداً؛ فإنه مفتاح الهداية والاستقامة عليها، وعليه اعتمد الإمام الجويني حين هداه الله تعالى لمذهب السلف في الاستواء وغيره، كما تقدم ذكره عنه، وهو عمدة المحققين كلهم في تحقيقاتهم لهذه المسألة، كابن تيمية وابن القيم وغيرهما).
([4]) لعل السائل الذي راسل الخطيب البغدادي كان طلب منه أن يجمع له الأحاديث الثابتة في الصفات فاعتذر له عن ذلك وأبان له أنه لم يسبق له جمعها في مؤلف خاص، ورجا أن يفعل ذلك فيما بعد، هذا احتمالٌ، والاحتمال الآخر أن الخطيب يريد بتعيين الأحاديث المروية في الصفات والتي قسمها ثلاثة أقسام، فأفصح عن نيته في تأليف كتاب يجمع الأقسام الثلاثة، ولا إخال الخطيب تم له ذلك؛ فإن المراجع التي ترجمت له لم تذكر هذا الكتاب، والله تعالى أعلم.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق